لم أعد أقرأ النصوص الأدبية كما كنت أفعل قبل عقدين من الزمن. فأنا الآن لا أجلس إلى مكتب خشبي ولا أُقلّب الصفحات بحنوّ، بل أُمسك بجهاز صغير الحجم، أفتحه كلما أردت السفر في الجملة، أو الغوص في طبقات السرد.
لقد بات الأدب يعيش تحوّله الأكثر جذرية منذ اختراع المطبعة. لا نتحدث هنا عن تحوّلات سطحية في الوسيط، بل عن ولادة نوع جديد من النصوص؛ نصوص لا تُقرأ على خط مستقيم، بل تتشعب وتتشظى مثل خريطة ذهنية، تفتح أبوابها أمام القارئ لا كمتلقٍ سلبي، بل كمشارك فعلي في إنتاج المعنى. إنها نصوص «الهايبرتكست» (النص الفائق)، التي قلبت مفاهيم القراءة، وخلخلت ثوابت السرد، ودفعتنا إلى إعادة تعريف العلاقة بين الكاتب والقارئ والنص.
لقد قدمت النظريات
الأدبية منذ ستينيات القرن الماضي إشارات مبكرة إلى انعتاق النص من سلطوية المؤلف.
ففي مقالة "موت المؤلف" لرولان بارت (1967)، نقرأ أن “ميلاد القارئ يجب أن
يُدفع بثمن موت المؤلف”. لكن تلك المقولة بقيت نظرية حتى جاءت التكنولوجيا الرقمية
لترسي أسسها العملية، وتُحول النص من كتلة مغلقة إلى نظام مفتوح قابل لإعادة التشكيل.
هنا لم يعد "النص" شيئًا يُستهلك مرة واحدة، بل بيئة افتراضية للعب، للتجريب،
وللمساهمة الجماعية.
إن النص التفاعلي،
الذي يُبنى وفق آليات "النص الفائق"، لا يقدّم للقارئ تسلسلاً خطيًا كما
اعتدنا في الرواية التقليدية، بل يتيح له خيارات، ومسارات متعددة، وروابط داخلية وخارجية،
تجعله يقرر كيف يتنقل بين المقاطع، وأي الفصول يقرأ أولاً، وأيها يؤجل. وهو بذلك يقترب
أكثر من ألعاب الفيديو منه من الكتب الورقية، لكنه يظل مخلصًا لروح الأدب في توليد
الأسئلة وتأمل الذات والعالم. في هذا السياق، بات من الممكن الحديث عن «قارئ مؤلف»،
يساهم في تكوين النص كما يفعل لاعب ماهر في لعبة ذات نهايات متعددة.
من النماذج الرائدة
في هذا المجال كتاب "Afternoon, a story" " "قصة ما بعد الظهيرة" لمايكل
جويس (1987)، الذي يُعد أول عمل روائي بنظام النص الفائق. تتغير مجريات الحكاية بتغير
اختيارات القارئ، وتنتج قراءات لا حصر لها. لم تعد الحبكة هنا هرمًا تقليديًا بل نسيجًا
معقدًا من التفرعات، ما يجعل من كل تجربة قراءة مغامرة فريدة، محفوفة بالإمكانيات.
وقد وصف النقاد مثل جورج لاندو هذا النوع من الأدب بـ"الفضاء النصي الإلكتروني"،
حيث تنصهر الحدود بين الواقع والافتراض.
هذا التحول لا يقتصر
على البنية فحسب، بل يطال كذلك اللغة نفسها. فالنص الفائق يحتاج لغة مرنة، قابلة للتقطيع
وإعادة الترتيب، تحتمل التعدد والاحتمال أكثر من الحسم واليقين. إنه أدب يتقاطع فيه
السرد بالشعر، والبرمجة بالفن، والمعلومة بالإيحاء. لا عجب إذن أن يحظى باهتمام أكاديمي
متزايد، كما تشير دراسات مثل “Hypertext 3.0” لجورج لاندو، أو بحوث ن. كاثرين هايلز في كتابها
“Electronic
Literature: New Horizons for the Literary”.
الأدب الرقمي ليس مجرد
انتقال للورق إلى الشاشة، بل هو إعادة هيكلة جذرية للعلاقة بين الكاتب والنص والقارئ.
كما يؤكد الباحث «Scott
Rettberg» "سكوت ريبيرغ" في كتابه “Electronic Literature”، "الأدب
الإلكتروني" فإن ما يميز هذا الأدب ليس فقط الوسيط الرقمي، بل “الممارسات التفاعلية
التي تجعله مساحة مشتركة للخلق والمعنى.” وبهذا المعنى، فإن الرواية التفاعلية أو القصيدة
البرمجية لم تعد تُقرأ فقط، بل تُمارس وتُعاد كتابتها، سواء عبر خوارزميات مدمجة أو
تفاعلات القراء عبر الروابط والتعليقات والإشارات.
لقد عايشتُ هذا التحول
وأنا أخطّ أول نص قصصي تفاعلي شارك فيه عشرات القرّاء، لا كمتفرجين، بل كصانعي اختيارات
ومسارات. شعرتُ حينها أنني جزء من ورشة سردية مفتوحة، تُبنى فيها الحكاية على طبقات،
وتتوزع فيها السلطة بين الكاتب والجمهور والخوارزمية. لم يعد النص ملكاً لصاحبه فقط،
بل صار فضاءً مشتركاً، يشبه إلى حد بعيد “القرية السردية” التي تخيّلها بيير
ليفي
وهو يصف دينامية المعرفة
الجماعية في المجتمعات الرقمية.
السرد الشبكي يُخرج
النص من وحدته الخطية المغلقة، ويمنحه بُعداً شبيهاً بالخريطة، حيث يمكن للقارئ أن
يختار مساره، ويعيد ترتيب فصول الحكاية، ويضيف تأويله الخاص. وهذا التحول لم يعد فقط
ممارسة إبداعية بل ظاهرة ثقافية تحتاج إلى تفكيك سوسيولوجي. فبقدر ما يتوسع النص، تتوسع
معه دوائر التلقي، وتتغير أنماط التأثير. لم يعد الكاتب يبحث عن قارئ متأمل، بل عن
متفاعل، متورط، بل وربما متمرد. إن هذا التفاعل ينسجم مع ما سماه مانويل
كاستيلس
“بشبكات المعنى” التي
تحكم آليات التواصل والإنتاج الرمزي في العصر الرقمي.
وبينما تنمو هذه التجارب،
يطرح سؤال الهوية السردية نفسه بإلحاح: من يملك النص؟ ومن يمنحه شكله النهائي؟ هل هو
الكاتب الأصلي؟ أم الخوارزمية التي تولّد البدائل؟ أم الجمهور الذي يُصوّت أو يُعلّق
أو يُشارك؟ في مقالة لها بعنوان “From Author to Network,” "من
الكاتب إلى الشبكة" تُشير الباحثة كاترين هالس إلى أن الأدب الشبكي يُعيد تشكيل “الفردية
الأدبية” ويحوّلها إلى “نظام تعاوني من الإبداع اللامركزي”، وهو ما يُربك كثيراً من
المفاهيم التقليدية حول الأصالة والملكية.
لقد أدركتُ، وأنا أخوض
في هذه الشبكات السردية، أن التحدي لا يكمن فقط في التكيف مع أدوات جديدة، بل في إعادة
تعريف دور الكاتب: هل أصبح محرّك سردي؟ مُصمم تفاعلات؟ أم مجرد مُحفز لبداية قصة يتكفّل
الآخرون بتوسيعها؟ الأمر يشبه ما حدث في عالم الموسيقى بعد انتشار الريمكسات والإنتاج
التشاركي، حيث لم يعد العمل النهائي نتيجة عبقرية فردية، بل تفاعلاً مع جمهور نشيط
ومتحفز.
لكن هذه الدينامية
لا تخلو من إشكاليات. فالتداخل المفرط بين الكتابة الجماعية والتقنيات الرقمية قد يُفضي
إلى “تبهيت الصوت الفردي”، وإلى تحويل الأدب إلى منتج استهلاكي أكثر منه مشروعاً جماليًا
متكاملاً. وهنا أستحضر نقد المفكر «Byung-Chul
Han» "بيونغ شو هان" للثقافة الرقمية في كتابه “In the Swarm”" في السرب " حيث يرى أن التفاعل السطحي
قد يُضعف العمق التأملي ويُفكك البُنى الجمالية للنص.
ومع ذلك، أجد أن القوة
الرمزية لهذا النوع من الأدب تكمن في قدرته على التقاطع مع الحساسيات الجديدة للمجتمع.
فالنص الشبكي يُجسّد، بل يُحاكي، طريقة تفكيرنا المعاصرة: مجزأة، متفرعة، لا خطية،
ومتعددة الأصوات. إنه يشبه ذاك الحلم المتكرر الذي تراه في أكثر من صورة، وكل مرة بنهاية
مختلفة، كأن السرد لم يعد مرآة الواقع فقط، بل انعكاسًا مرنًا لأوهامنا الجمعية.
ختامًا، يمكن القول
إن السرديات الشبكية ليست فقط نتيجة التكنولوجيا، بل هي أيضاً تعبير عن حاجة إنسانية
قديمة: أن نروي، لكن هذه المرة لا بمفردنا، بل معاً، داخل شبكة لا نهائية من العلاقات
والمعاني. ومع كل تجربة جديدة، يتضح لي أن الأدب الرقمي ليس وعداً تكنولوجياً فحسب،
بل فرصة لإعادة تخيّل الحكاية بوصفها فعلًا اجتماعياً ومشتركاً في جوهره.
أن تكتب الشعر وأنت تمثل دولتك، ليس مجرد ازدواج وظيفي، بل هو نوع من التوازن الدقيق بين الانضباط والحرية. الشاعر الدبلوماسي يترجم سياسات بلا...